.
يقول الله تعالى في سورة البقرة:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ( 8 ) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) هذه الآيات الكريمة بيان لأحوال المنافقين،وقد اخترنا أن نلقي مزيدا من الضوء على هذه النفسية المريضة انطلاقا -فقط -من الظواهر التركيبية واعتمادا على استجلاء الدلالات الإيحائية-فقط- الكامنة في التركيب.
1-الظاهرة الأولى: هيمنة القول.ما موقع "النفسية المنافقة "من المثلث:قلب/لسان/جوارح؟
أماضلع القلب فخرب فقلوبهم مرضى.وأما ضلع أعمال الجوارح فمكسور:
{ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} (142) سورة النساء
{ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} (54) سورة التوبة
فلم يبق لهم إلا ضلع اللسان فهو أنشط ما عندهم وعليه معولهم لإثبات الذات وتعويض غياب الضلعين السابقين...
{ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ..} (19) سورة الأحزاب
وجاء البيان المعجز ليوحي بهذه الحقيقة فكان أن كشف عن هوية "النفسية المنافقة" من خلال التجليات القولية فقط.فأول ما ذكر عنهم أنهم "يقولون"....
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ...
ثم تسلسلت الأقوال منهم إما ابتداء وابتدارا -كما في قولهم الأول- وإما ردا وجوابا:
1-مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ.
2-قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ.
3-قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ.
4-قَالُوا آَمَنَّا.
5-قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ.
2-الظاهرة الثانية:التركيب الظرفي.تسلسلت أقوال المنافقين في فضاء تعبيري اتسم بالظرفية/ الشرطية:
1-وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ.
2--وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ .
3-وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا.
4-وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ.
هذه اللازمة الأسلوبية توحي بوجه من وجوه النفسية المنافقة:
مفادها أن المنافق لا ثوابت عنده ولا مباديء قارة تحكم سلوكه..وإنما يتصرف بحسب الظروف ويتلون سلوكه بحسب المقامات الخارجية...
3-الظاهرة الثالثة:فورية التعقيب النقضي.نلمس معاملة خاصة للمنافقين...فقد وزعت جرائمهم ودعاواهم إلى مفردات مع نقض كل دعوى بمجرد صدورها....وفي ذلك إشعار بخطورة هؤلاء وتنبيه على وجوب الحذر والترصد وتتبع حركاتهم....
-الدعوى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ
التعقيب عليها:
وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
-الدعوى:
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا.
التعقيب عليها:
وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ.
-الدعوى:
كَانُوا يَكْذِبُونَ.
التعقيب عليها:
فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
-الدعوى:
قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ.
التعقيب عليها:
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ.
-الدعوى:
قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ.
التعقيب:
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ.
-الدعوى:
قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ.
التعقيب:
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
بعد هذا التتبع بالنقض للدعاوى المفردة يأتي الحكم العام:
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ.
وهو حكم جاء في مقابل ما قيل في حق المؤمنين:
{أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5) سورة البقرة.....
وفي مقابل ما قيل عن الكفار:
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.